سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{هؤلاء} دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل رداً إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول هذا أقبل، وقيل تقديره أعني هؤلاء، وقيل {هؤلاء} بمعنى الذين، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون، ف {تقتلون} صلة {لهؤلاء}، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري.
عدسْ ما لعبّاد عليك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه: {هؤلاء} رفع بالابتداء و{أنتم} خبر مقدم، و{تقتلون} حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بالنطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد.
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضاً وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعاً لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {تُقتِّلون} بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة، والديار مباني الإقامة، وقال الخليل: محلة القوم دارهم، وقرأ حمزة وعاصم والسكائي {تظاهرون} بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة {تظَّاهرون} بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة {تُظهِرون} بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة {تَظَّهَرَّون} بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي عمرو، ومعنى ذلك على كل قراءة تتعاونون، وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهريْن يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي، والمعنى بمكتسبات الإثم، {والعدوان} تجاوز الحدود والظلم، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، وقرأ حمزة {أسرى تفدوهم}، وقرأ نافع وعاصم والكسائي {أسارى تفادوهم}، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير {أسارى تفدوهم}، وقرأ قوم {أسرى تفادوهم}. و{أسارى} جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقاً، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلاً بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل في فعلان أن يجمع على فَعالى بفتح الفاء وفُعالى بضمها كسكران وكسلان وسُكَارى وكُسَالى، قال سيبويه: فقالوا في جمع كسلان كسْلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا {أسارى} شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرهاً كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.
و {تفَادوهم} معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيداً بمال وفاديته بمال، وقال قوم: هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أبو علي: كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضاً إما أسيراً وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف.
وقوله تعالى: {وهو محرم} قيل في {هو} إنه ضمير الأمر، تقديره والأمر محرم عليكم، و{إخراجهم} في هذا القول بدل من {هو}، وقيل {هو} فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و{محرم} على هذا ابتداء، و{إخراجهم} خبره، وقيل هو الضمير المقدر في {محرم} قدم وأظهر، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضاً وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم.
وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه، فقال له ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
ثم توعدهم عز وجل: والخزي: الفضيحة والعقوبة، يقال: خزي الرجل يخرى خزياً إذا ذل من الفضحية، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا. واختلف ما المراد بالخزي هاهنا فقيل: القصاص فيمن قتل، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل قتل قريظة، وإجلاء النضير، وقيل: الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو. والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات. وأشد العذاب الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن هرمز {تردون} بتاء.
وقوله تعالى: {وما الله بغافل} الآية، فرأ نافع وابن كثير {يعملون} بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد: وبما يجري مجراه.


جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا، وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على ان يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة، و{الكتاب} التوراة، ونصبه على المفعول الثاني ل {آتينا}، {وقفينا} مأخوذ من القفا، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع. وهذه الأية مثل قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا} [المؤمنون: 144]، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر {بالرسْل} ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم، و{البينات} الحجج التي أعطاها الله عيسى، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير، وقيل هي الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك، و{أيدناه} معناه قويناه، والأيد القوة، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد {آيدناه}. وقرأ ابن كثير ومجاهد {روح القدْس} بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة {بروح القدوس} بواو، وقال ابن عباس رضي الله عنه روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى، وقال ابن زيد: هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة: روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: اهج قريشاً وروح القدس معك ومرة قال له وجبريل معك، وقال الربيع ومجاهد: {القدس} اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل {القدس} الطهارة، وقيل {القدس} البركة.
وكلما ظرف، والعامل فيه {استكبرتم}، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه التوبيخ والتقرير، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل.
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي {تهوى} ضمير من صلة ما لطول اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، و{استكبرتم} من الكبر، {وفريقاً} مفعول مقدم.
وقرأ جمهور القراء {غلْف} بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل {حمْر} و{صفْر}، والمعنى قلوبنا عليها غَلَف وغشاوات فهي لا تفقه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: المعنى عليها طابع، وقالت طائفة: غلْف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن {غلّف} بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {بل لعنهم الله بكفرهم}، و{بل} في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد، و{قليلاً} نعت لمصدر محذوف تقديره فإيماناً قليلاً ما يؤمنون، والضمير في {يؤمنون} لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان: إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، وإما لأن وقت إيمانهم عندما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيماناً قليلاً، وعلى الذي قبله فوقتاً قليلاً، وعلى الذي قبله فعدداً من الرجال قليلاً، و{ما} في قوله: {فقليلاً ما يؤمنون} زائدة مؤكدة، و{قليلاً} نصب ب {يؤمنون}.


الكتاب القرآن، و{مصدق لما معهم} يعني التوراة، وروي أن في مصحف أبي بن كعب {مصدقاً} بالنصب.
و {يستفتحون} معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم: لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به و{يستفتحون} معناه يستنصرون، وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عيله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين»، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وان كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، ولعنة الله: معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب {لما} و{لِما} الثانية في هذه الآية. فقال أبو العباس المبرد: جوابهما في قولَه: {كَفروا}، وأعيدت {لما} الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريراً للذنب، وتأكيداً له، وقال الزجاج: {لما} الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه؟
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأنه محذوف، وقال الفراء: جواب {لما} الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب {لما} الثانية {كفروا}.
وبيس أصله بئس سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في بئس بيس اتباعاً للكسرة، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح، واختلف النحويون في {بيسما} في هذا الموضع، فمذهب سيبويه أن ما فاعلة ببيس، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها ما في الإبهام، فالتقدير على هذا القول: بيس الذي {اشتروا به أنفسهم أن يكفروا}، كقولك: بيس الرجل زيد، وما في هذا القول موصولة، وقال الأخفش: ما في موضع نصب على التمييز كقولك بيس رجلاً زيد، فالتقدير بيس شيئاً أن يكفروا، و{اشتروا به أنفسهم} في هذا القول صفة ما، وقال الفراء بيسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، وما إنما تكف أبداً حروفاً، وقال الكسائي: ما، و{اشتروا} بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا أيضاً معترض لأن بيس لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير، وقال الكسائي أيضاً: إن ما في موضع نصب على التفسير وثم ما أخرى مضمرة، فالتقدير بيس شيئاً ما اشتروا به أنفسهم، و{أن يكفروا} في هذا القول بدل من ما المضمرة، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون {أن يكفروا} في موضع خفض بدلاً من الضمير في {به}، وأما في القولين الأولين ف {أن} {يكفروا} ابتداء وخبره فيما قبله، و{اشتروا} بمعنى باعوا، يقال: شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، و{بما أنزل الله} يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل، و{بغياً} مفعول من أجله، وقيل نصب على المصدر، و{أن ينزل} نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أن ينزل} بالتخفيف في النون والزاي، و{من فضله} يعني من النبوة والرسالة. و{من يشاء} يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب. ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغياً، والله قد تفضل عليه، و{باؤوا} معناه: مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به، و{يغضب} معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل لعبادتهم العجل، وقيل لقولهم عزير ابن الله، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.
وقال قوم: المراد بقوله {بغضب على غضب} التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين، و{مهين} مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم} يعني: اليهود أنهم إذ قيل لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعنون التوراة وما وراءه. قال قتادة: أي ما بعده، وقال الفراء، أي ما سواه ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلاً فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده. ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق، و{مصدقاً} حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة: [البسيط]
أنا ابن دارة معروفاً بها حسبي *** وهل لدارة يا للنّاس من عار
و {لما معهم} يريد به التوراة.
وقوله تعالى: {قل فلم تقتلون} الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على {فلم} لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر محمداً صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء {تقتلون} بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله {من قبل} وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة [الكامل أخذ مضمر].
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر
وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع. وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، و{إن كنتم} شرط والجواب متقدم، وقالت فرقة: {إن} نافية بمعنى ما.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16